فصل: تفسير الآيات (28- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (28- 50):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ} سأخلق {بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} عدلت صورته وأتممت خلقه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} فصار بشراً حياً {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة {فَسَجَدَ الملائكة} المأمورون بالسجود {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} على التأكيد {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين}.
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: لانفعل. فأرسل عليهم ناراً فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلاّ إبليس كان من الكافرين.
{قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} محل أن النصب بفقد الخافض.
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا} أي من الجنة ومن السماوات {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ملعون طويلاً {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي بأغوائك أياي وهو الإضلال والإبعاد {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} معاصيك ولأُحببنَّها اليهم {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنهم {أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}.
قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام: بفتح اللام. وإختاره أبو عبيد، يعني إلاّ من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته.
وقرأ أهل مكة والبصرة: بكسر اللام، وإختاره أبو حاتم، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة. وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعاً: المؤمنين.
{قَالَ} الله لإبليس {هَذَا صِرَاطٌ} طريق {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}.
قال الحسن: هذا صراط إليَّ مستقيم.
وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لايعرج على شيء.
وقال الأخفش: يعني على الدلالة صراط مستقيم.
وقال الكسائي: هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمتهُ وتهدده: طريقك عليَّ، كما قال الله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلاًّ بأعمالهم.
وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب: هذا صراط عليٌّ برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع، كقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57].
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} قوة.
قال أهل المعاني: يعني على قلوبهم.
وسُئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم.
{إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أطباق {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ} يعني من أتباع إبليس {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} حظ معلوم.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الباب.
فقال: لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.
وأبو سنان عن الضحاك في قول الله: {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} قال: للنار سبعة أبواب هي سبعة أدراك بعضها على بعض.
فأولها: أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثمّ يخرجون.
والثاني: فيه اليهود.
والثالثة: فيه النصارى.
والرابع: فيه الصابئون.
والخامسة: فيه المجوس.
والسادس: فيه مشركوا العرب.
والسابع: فيه المنافقون.
فذلك قوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] الآية.
أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرّت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بلغ هذه الآية: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} فخرّت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبتها فانصرف وقال: «يا بلال عليَّ بماء» فجاء فصب على وجهها حتّى أفاقت وجلست، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا هذه ما حالك؟» فقالت: رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أُصلي خلفك ركعتين، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك؟
قال بلال: فما أحسبه إلاّ قال: «يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل».
فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها.
فقال: «يا أعرابية لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب على كل باب على قدر أعمالهم».
فقالت: والله إني لامرأة مسكينة مالي مالٌ ومالي إلاّ سبعة أعبد أشهدك يارسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حرُّ لوجه الله. فأتاه جبرئيل فقال: يارسول الله بشّر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها.
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادخلوها} قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر، مجازه: يقال لهم ادخوها.
وقرأ الحسن: أدخلوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير.
{بِسَلامٍ} بسلامة {آمِنِينَ} من الموت والعذاب والآفات {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} نصب على الحال، وإن شئت قلت: جعلناهم إخوانا {على سُرُرٍ} جمع سرير مثل جديد جدد {مُّتَقَابِلِينَ} يقابل بعضهم بعضاً لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه {لاَ يَمَسُّهُمْ} لا يصيبهم {فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ * نَبِّئْ} أخبر {عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم}.
قال ابن عبّاس: يعني لمن تاب منهم.
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} لمن لم يتب منهم.
روى ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك، فقال: «لا أراكم تضحكون»، ثمّ أدبر حتّى إذا كان عند الحجر رجع ألينا القهقرى فقال: «إني لمّا خرجت جاء جبرئيل فقال: يا محمّد لِمَ تقنّط عبادي {نبّيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}».
وقال قتادة: بلغنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع عن محارم الله، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه».

.تفسير الآيات (51- 86):

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)}
{وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} يعني الملائكة الذين أرسلهم الله ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والإثنين والجمع والمؤنث والمذكر {فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ} إبراهيم {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} يعني إسحاق، فعجب إبراهيم من كبره وكبر إمراته {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} أي على الكبر {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فأي شيء تبشرون.
واختلف القراء في هذا القول، فقرأ أهل المدينة والشام بكسر النون والتشديد على معنى تبشرونني، فأدغمت نون الجمع في نون الإضافة.
وقرأ بعضهم: بالتخفيف على الخفض.
وقرأ الباقون: في النون من غير إضافة.
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين}.
قرأه العامّة: بالألف.
وقرأ يحيى بن وثاب: القانطين.
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ}.
قرأ الأعمش وأبو عمرو والكسائي بكسر النون، وقرأ الباقون: بفتحه وقال الزجاج: قنط يقنط، وقنط يقنط إذا يئس من رحمة الله.
{مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون * قَالَ} لهم إبراهيم {فَمَا خَطْبُكُمْ} شأنكم وأمركم {أَيُّهَا المرسلون} {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} مشركين {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} أتباعه وأهل دينه {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}.
قرأ أهل الحجاز وعاصم وأبو عمرو: لمنجّوهم بالتشديد، وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وخففه الآخرون.
{إِلاَّ امرأته} سوى إمرأة لوط {قَدَّرْنَآ} قضينا {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} الباقين في العذاب، وخفف إبن كثير قدرنا.
قال أبو عبيد: استثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثمّ إستثنى إمراته من آل لوط فرجعت إمرأته في التأويل إلى القوم المجرمين، لأنه استثناء مردود على استثناء، وهذا كما تقول في الكلام: لي عليك عشرة دراهم إلاّ أربعة إلاّ درهماً، فلك عليه سبعة دراهم؛ لأنك لما قلّت: إلاّ أربعة، كان لك عليه ستة، فلما قلت: إلاّ درهماً كان هذا استثناء من الأربعة فعاد إلى الستة فصار سابعاً.
{فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} لوط لهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} يعني لا أعرفكم {قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يعني يشكّون إنه ينزل بهم وهو العذاب {وَأَتَيْنَاكَ بالحق} وجئناك باليقين، وقيل: بالعذاب {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل واتبع أَدْبَارَهُم} أي كن ورائهم وسر خلفهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}.
قال ابن عبّاس: يعني الشام. وقال خليل: يعني مصدر.
{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} يعني وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأخبرناه {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ}.
يدل عليه قراءة عبد الله: وقلنا له إن دابر هؤلاء، يعني أصلهم، {مَقْطُوعٌ} مستأصل {مُّصْبِحِينَ} في وقت الصبح إذ دخلوا فيه {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} يعني سدوم {يَسْتَبْشِرُونَ} بأضياف لوط طمعاً منهم في ركوب الفاحشة {قَالَ} لوط لقومه {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي} وحق على الرجل بإكرام ضيفه {فَلاَ تَفْضَحُونِ} فيهم {واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} فلا تهينون ولا تخجلون، يجوز أن يكون من الخزي، ويحتمل أن يكون الخزاية {قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} أولم ننهك أن تضيّف أحداً من العالمين.
{قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي} أزوجهّن إياكم إن أسلمتم فأتوا النساء الحلال ودعوا ماحرم الله عليكم من إتيان الرجال {إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما أمركم به.
قال قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته، وقيل: رأى أنهم سادة إليهم يؤول أمرهم فأراد أن يزوجهم بناته ليمنعوا قومهم من التعرّض لأضيافه، وقيل: أراد بنات أمته لأن النبي أب لامته، قال الله {لَعَمْرُكَ} يا محمّد يعني وحياتك.
وفيه لغتان: وعمرُ وعمرَ.
يقول العرب: عَمرك وعمرك.
{إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} ضلالتهم وحيرتهم {يَعْمَهُونَ} يترددون.
قاله مجاهد، وقال قتادة: يلعبون.
ابن عبّاس: يتمادون.
أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: فالخلق لله عزّ وجلّ ولا برأ ولا ذرأ نفساً أكرم عليه من محمّد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلاّ حياته قال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ} حيت أشرقت الشمس، أي أضاءت، وهو نصب على الحال {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال ابن عبّاس والضحاك: للناظرين.
مجاهد: للمتفرسين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثمّ قرأ هذه الآية.
وقال الشاعر:
توسمته لما رأيت مهابة ** عليه وقلت المرء من آل هاشم

وقال آخر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ** بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

وقال قتادة: للمعتبرين.
{وَإِنَّهَا} يعني قرى قوم لوط {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} بطريق واضح.
قاله قتادة، ومجاهد، والفراء، والضحاك: بطريق معلّم ليس بخفي ولا زائغ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ * وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} وقد كان أصحاب الغيضة لكافرين، وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر متناوش متكاوش ملتف وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة وفي الشتاء اليابسة وكان عامة شجرهم الدوم وهو المُقل {فانتقمنا مِنْهُمْ} بالعذاب، وذلك أن الله سلّط عليهم الحرّ سبعة أيام لايمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة فالتجأوا إلى ظلّها يلتمسون روحها فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم فذلك قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء: 189] {وَإِنَّهُمَا} يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} طريق مستبين، وسمّي الطريق إماماً لأنه يؤتم به.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر} أي الوادي، وهو مدينة ثمود وقوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام {المرسلين} أراد صالحاً وحده.
عبدالله بن عمر وجابر بن عبد الله قالا: مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلاّ أن تكونوا باكين حذراً بأن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثمّ قال: «هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله» قيل: من هو يارسول الله؟ قال: «أبو رغال» ثمّ زجر صلى الله عليه وسلم فأسرع حتّى خلفها.
{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} يعني الناقة وولدها والسير {فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} من الخراب ووقوع الجبل عليهم {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} يعني صيحة العذاب والهلاك {مُصْبِحِينَ} في وقت الصبح وهو نصب على الحال {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الشرك والأعمال الخبيثة. {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} وإن القيامة لجائية {فاصفح الصفح الجميل} فأعرض عنهم واعف عفواً حسناً، نسختها آية القتال.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم}.